التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان فتح بلجراد من الأعمال ذات الأولوية لسليمان القانوني، لم تكن هذه مهمة سهلة، فالدولة العثمانية فشلت قبل ذلك ثلاث مرات في فتح بلجراد بعد حصارات طويلة.
المواجهة مع النمسا والمجر (1521-1533م)
بعد وأد محاولة التمرد المملوكيَّة في الشام، والتي تبعها هدوءٌ شاملٌ على المستوى الداخلي، كانت الأولويَّة الأكبر للسلطان سليمان القانوني هي مجابهة التوسُّعات المتوقَّعة من المارد النمساوي؛ فالإمبراطور شارل الخامس نشطٌ للغاية، وفي عنفوان قوَّته الآن؛ بينما الدولة الصفوية منزويةٌ بعد هزائمها أمام العثمانيين، وقد انسحب الشاه إسماعيل من الحياة السياسية، فقلَّ خطر هذه الدولة.
كانت الأرض المناسبة للصدام مع النمسا هي أرض مملكة المجر الوسيطة، مع العلم أن المجر آنذاك ليست هي الدولة المتعارف عليها الآن، إنما هي مملكةُ واسعةُ تشغل معظم الحدود الشمالية للدولة العثمانية، وتشمل من دول عالمنا المعاصر الآن دول المجر، وكرواتيا، وسلوڤاكيا Slovakia، والتشيك، والنصف الشمالي من صربيا إلى بلجراد، ومعظم رومانيا، وأجزاء من غرب أوكرانيا.
لم تعد المجر في هذه المرحلة التاريخيَّة من الدول المخيفة في وسط أوروبا وشرقها. لقد عانت المملكة من اضطراباتٍ اقتصاديَّة وسياسيَّة واسعة بعد انتهاء عصر أعظم قادتها: هونيادي ثم ابنه ماتياس[1]. الآن المجر دولة واسعة؛ لكنَّها ضعيفة، وعلى قيادتها -يوم تولَّى سليمان القانوني- ملكٌ صغيرٌ في الرابعة عشرة من عمره، هو لويس الثاني Louis II[2]، وكانت المجر تدفع جزيةً سنويَّةً إلى الدولة العثمانية[3]. سعى الإمبراطور شارل الخامس لفرض هيمنته على المجر المجاورة له من الشرق فزوَّج في 1521م أخاه فرديناند -وهو أمير النمسا، وولي عهد الإمبراطورية؛ أي سيكون إمبراطور النمسا-إسبانيا بعد وفاة شارل الخامس- من أنَّا Anna أخت ملك المجر[4]، وهكذا إذا لم يُنْجِب لويس الثاني فسيصير مُلْك المجر قانونيًّا إلى إمبراطور النمسا. كانت هذه إشارةٌ واضحةٌ لطموحات النمسا في المجر.
عَلِم سليمان القانوني أن الصدام مع النمسا على أرض المجر سيكون قريبًا! كان كلُّ ما هو جنوب نهر الدانوب في هذه المرحلة عثمانيًّا، باستثناء مدينة بلجراد فقط، وهي مدينةٌ ذات أهميَّةٍ استراتيجيَّةٍ قصوى، وكانت تابعةً للمجر منذ عام 1427م[5]، وهي النقطة الحصينة الأخيرة قبل بودا عاصمة المجر، فسقوطها يعني فتح الطريق إلى مملكة المجر، وبقاؤها في يد المجريِّين يُمثِّل تهديدًا مستمرًّا لكلِّ ما هو جنوب الدانوب.
هكذا صار فتح بلجراد من الأعمال ذات الأولويَّة لسليمان القانوني في صدامه المتوقَّع مع النمسا. لم تكن هذه مهمَّةٌ سهلة؛ فالدولة العثمانية فشلت قبل ذلك ثلاث مرَّات في فتح بلجراد بعد حصاراتٍ طويلة. كانت المرَّة الأولى في 1440م في عهد السلطان مراد الثاني، والثانية في 1456م في عهد ابنه السلطان محمد الفاتح، وفيها تعرَّض الفاتح لهزيمةٍ كبيرةٍ لا تُنْسَى، أمَّا الثالثة فكانت حصارًا سريعًا في 1492م في عهد السلطان بايزيد الثاني.
هذا تاريخٌ غير جيِّدٍ مع المدينة الحصينة. غير أن هناك معضلةً أخرى في مستقبل الصراع مع الإمبراطورية النمساوية الإسبانية، وهي أن الحرب لن تكون برِّيَّةً فقط، فكون الأسطول الإسباني صار تابعًا للإمبراطورية النمساوية، وكون الحرب دائرةً بالفعل بين البحريَّة الإسبانية والجزائر التابعة للدولة العثمانية، يجعل من المتوقَّع أن يتحرَّك الأسطول العثماني في البحر المتوسط غربًا في اتجاه إسبانيا. هذا التحرُّك يحمل مغامرةً خطرةً لوجود قوَّتين نصرانيَّتين في شرق البحر المتوسط يمكن أن تُمثِّلا تهديدًا للأسطول العثماني.
هاتان القوَّتان هما فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس، والأسطول البندقي المتواجد في كورفو Corfu في مدخل البحر الأدرياتيكي، ومدينة نوبليا Nauplia في المورة اليونانية، وكذلك في جزيرة قبرص. كانت مشكلة البندقية أهون؛ لأنها تعرَّضت قبل ذلك لهزيمتين كبيرتين من الدولة العثمانية؛ في عهد الفاتح، ثم في عهد بايزيد الثاني، وقد عقدت معاهدةً أخيرةً مع العثمانيين في 1503م، وما زالت مرتبطةً بمعاهدتها، وحريصةً على مصالحها التجاريَّة في المنطقة. أما فرسان القديس يوحنا فعدوٌّ صعب المراس، ولهم في التاريخ العثماني اليد العليا حتى هذه اللحظة، وقد فشل الفاتح نفسه في فتح جزيرتهم مرَّتين؛ عامي 1479 و1480م، ولم يُحقِّق العثمانيُّون فوزًا عليهم حتى هذا التاريخ.
بتجميع النقاط السابقة صار أمام السلطان القانوني بعض المهامِّ الكبرى يحتاج أن يقوم بها على وجه العجلة ليسبق الإمبراطورية النمساوية في السيطرة على المجر؛ أوَّلًا فتح بلجراد، وثانيًا فتح رودس، وثالثًا تأكيد المعاهدة مع البندقية ليضمن حيادها أثناء المواجهة.
فتح بلجراد: (1521م)
حيث إن المجر تدفع الجزية إلى الدولة العثمانية منذ 1503م إثر معاهدةٍ في عهد بايزيد الثاني جُدِّدت عام 1519م في عهد سليم الأول[6]، فإن الدولة العثمانية لا ترغب في دخول بلجراد عسكريًّا إلا في حال نقض المجر لعهدها معها. لهذا كان الطريق الدبلوماسي هو الخيار الأول لسليمان القانوني.
أرسل القانوني سفارةً للملك المجري الصغير لويس الثاني يطلب منه أداء الجزية السنوية. كان الردُّ المجري أحمقًا بشكلٍ غير مسبوق! رفض الملك الصغير دفع الجزية وقطع رأس السفير العثماني[7]! كانت هذه جريمةً في كلِّ الأعراف، وتُعتبر إعلانًا صريحًا للحرب. مع فداحة المصيبة إلا أن هذه الجريمة أعطت السلطان القانوني السبب الشرعي والقانوني الدولي الذي يُبَرِّر الهجوم العسكري على بلجراد.
لماذا ارتكب لويس الثاني هذه الحماقة؟ هل توقَّع عونًا من البابا؟ هل استنتج أن إمبراطور النمسا سيسعد بخطوته الجريئة ويأتي لغزو الدولة العثمانية؟ هل توقَّع صمتًا من الجانب العثماني لحداثة سنِّ القانوني وقلَّة خبرته؟ لم تشرح المصادر السِّرَّ وراء هذه الحماقة، ولسوء طالع المجريِّين كان النمساويُّون، والبابا، وبقيَّة الدول الأوروبية مشغولةً في مشاكل داخليَّة، فلم يتقدَّم أحدٌ منهم بمساعدةٍ للملك الصغير.
أعلن السلطان القانوني الحربَ على المجر. تحرَّكت ثلاثة جيوشٍ من اتجاهاتٍ مختلفةٍ للتورية على مقصد الحملة. التقت الجيوش الثلاثة عند أسوار بلجراد في أواخر يونيو 1521م، ولحق بها السلطان بنفسه في آخر يوليو. كانت هذه هي الحملة الهمايونيَّة الأولى لسليمان القانوني، وكانت حملةً كبيرةً للغاية، وصلت في بعض التقديرات إلى مائة ألف جندي[8]، ويكفي أنها كانت مصحوبةً بثلاثةٍ وثلاثين ألف جملٍ محمَّلة بالسلاح والمهمَّات، بالإضافة إلى عشرة آلاف عربة محمَّلة بالغذاء، مع خمسين سفينةً حربيَّةً من خلال نهر الدانوب[9]! كان قصف المدينة قد بدأ من منتصف يوليو قبل مجيء السلطان، واستمر بقوَّة لأكثر من ثلاثة أسابيع، وكان القصف من النهر أكثر من البرِّ.
تخلَّل القصف محاولتان غير ناجحتين لاختراق الأسوار؛ ولكن المحاولة الثالثة في الثامن من أغسطس كانت ناجحة، وسقطت المدينة الحصينة! انسحب الجيش المجري المدافع عن المدينة إلى قلعتها. حاصر الجيش العثماني القلعة، وفي 29 أغسطس أسقطها[10][11]، وبذلك انتهت المقاومة تمامًا، وصارت المدينة في يد العثمانيِّين، وهو الوضع الذي سيستمرُّ إلى القرن التاسع عشر!
كان انتصارًا مجيدًا؛ فقد حقَّق آثارًا إيجابيَّةً كبيرةً أكثر بكثيرٍ من مجرَّد إسقاط مدينةٍ حصينة. فتح هذا النصر أولًا الطريق إلى مملكة المجر، وثانيًا أحدث هزَّةً عظيمةً للنظام السياسي في المجر، فصار متوقعًا لضربةٍ قاضيةٍ قريبة، وثالثًا عزَّز هذا النصر ثقة السلطان الشابِّ في نفسه وجيشه؛ فهذه أوَّل حملاته، فإذا به يُحقِّق ما لم ينجح جدُّه الأعظم الفاتح في تحقيقه، ورابعًا كانت هذه رسالةٌ قويَّةٌ إلى إمبراطورية النمسا تجعلها تُعيد حساباتها في تقييم الوضع الجديد للدولة العثمانية، وخامسًا وأخيرًا حقَّق هذا النصر رهبةً عند القوى الأوروبية المختلفة، وأهمُّها بالنسبة إلى الدولة العثمانية هي جمهورية البندقية، التي سارعت بطلب تجديد المعاهدة التجارية، وهو ما كان يُريده السلطان ليضمن حياد البندقية أثناء تجهيزه لفتح رودس، وكذلك لحربه المرتقبة مع المجر في مواطن أخرى. تمَّت هذه المعاهدة في ديسمبر 1521م، وكانت نصرًا جيِّدًا للعثمانيين؛ حيث كانت شروط المعاهدة في صالحها بشكلٍ لافت[12].[13].
[1] Bak, János: The Late Medieval Period, 1382-1526, In: Sugar, Peter F.; Hanák, Péter & Frank, Tibor: A History of Hungary, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 1994., pp. 76-77.
[2] Johnson, Lonnie R.: Central Europe: Enemies, Neighbors, Friends, Oxford University Press, New York, USA, 1996., p. 52.
[3] Papp, Sándor: The System of Autonomous Muslim and Christian Communities, Churches, and States in the Ottoman Empire, In: Kármán, Gábor & Kunčević, Lovro: The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries (The Ottoman Empire and its Heritage), Brill, Boston, USA, 2013, p. 405.
[4] Fitzgerald, M. S.: The Kings of Europe, Past and Present, and Their Families, Longmans, Green, and Co., London, 1870., p. 236.
[5] Ágoston, Gábor: Murad II (b. 1404–d. 1451) (r. 1421–1444; 1446–1451), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (I).p. 400.
[6] Papp, 2013, p. 405.
[7] Kański, Jack J.: History of Russia and Eastern Europe: A Concise Outline, Troubador Publishing Ltd, Leicester, UK, 2019., p. 149.
[8] Popović, Marko: Siege of Belgrade in 1521 and Restoration of Fortifications after Conquest, In: Rudić, Srđan; Aslantaş, Selim & Amedoski, Dragana: Belgrade 1521-1867, The Institute of History Belgrade, Yunus Emre Enstitüsü-Turkish Cultural Centre Belgrade, Belgrade, Serbia, 2018., p. 6.
[9] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/262.
[10] إينالچيك، خليل: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناءوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م، 2002 صفحة 57.
[11] Popović, 2018, pp. 6-8.
[12] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 202، 203.
[13] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 420- 423.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك